الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح عليه السّلام وربّه، فإنّ نوحاً عليه السّلام لما أجاب بقوله: {ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} [هود: 47] إلى آخره خاطبه ربه إتماماً للمحاورة بما يسكّن جأشهُ. وكان مقتضى الظاهر أن يقول: قال يا نوح اهبط، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قوله: {وقيل يا أرض ابلعي... وقيل بعداً للقوم الظالمين} [هود: 44] فحصل بذلك البناء قضاء حق الإشارة إلى جزء القصة، كما حصل بالفصل قضاء حق الإشارة إلى أن ذلك القول جزء المحاورة. ونداء نوح عليه السّلام للتنويه به بين الملأ. والهبوط: النزول. وتقدم في قوله: {اهبطوا مصراً} في سورة [البقرة: 61]. والمراد: النزول من السفينة لأنّها كانت أعلى من الأرض. والسّلام: التحيّة، وهو مما يخاطب بها عند الوداع أيضاً، يقولون: اذهب بسلام، ومنه قول لبيد: إلى الحول ثم اسْم السلام عليكما *** وخطابه بالسلام حينئذٍ إيماء إلى أنه كان في ضيافة الله تعالى لأنه كان كافلاً له النجاة، كما قال تعالى: {وحملناه على ذَات ألواححٍ ودُسرٍ تجري بأعيننا} [القمر: 13، 14]. وأصْل السّلام: السّلامة، فاستعمل عند اللقاء إيذاناً بتأمين المرء ملاقيه وأنّه لا يضمر له سوءاً، ثم شاع فصار قولاً عند اللقاء للإكرام. وبذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا: السّلام على الله، فقوله هنا: {اهبط بسلام} نظير قوله: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46] فإن السلام ظاهر في التحية لتقييده ب (آمنين). ولو كان السّلام مراداً به السلامة لكان التقييد ب (آمنين) توكيداً وهو خلاف الأصل. و {منا} تأكيد لتوجيه السّلام إليه لأنّ (من) ابتدائية، فالمعنى: بسلام ناشئ من عندنا، كقوله: {سلامٌ قولاً من رببٍ رحيمٍ} [يس: 58]. وذلك كثير في كلامهم. وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشدُّ مبالغة من الذي لا تذكر معه (من). والباء للمصاحبة، أي اهبط مصحوباً بسلام منّا. ومصاحبة السّلام الذي هو التّحية مصاحبة مجازية. والبركات: الخيرات النامية، واحدتها بركة، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء. ولما كان الداعون بلفظ التحيّة إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح عليه السّلام ومن معه، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم. و (عليك) يتعلق (بسلام) و(بركات) وكذلك {وعلى أُمم ممن معك}. والأمم: جمع أمة. والأمة: الجماعة الكثيرة من الناس التي يَجمعها نسب إلى جدّ واحد. يقال: أمّة العرب، أو لغةٌ مثل أمة الترك، أو موطن مثل أمة أمريكا، أو دين مثل الأمة الإسلامية، ف {أمم} دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح عليه السّلام. وليس الذين ركبوا في السفينة أمماً لقلة عددهم لقوله: {وما آمن معه إلاّ قليل} [هود: 40]. وتنكير {أمم} لأنّه لم يقصد به التعميم تمهيداً لقوله: {وأمم سنمتعهم}. و (مِن) في {ممّن معك} ابتدائية، و(مَن) الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح عليه السّلام في السفينة. ومنهم ابناؤه الثلاثة. فالكلام بشارة لنوح عليه السّلام ومن معه بأن الله يجعل منهم أمماً كثيرة يكونون محلّ كرامته وبركاته. وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمماً بخلاف ذلك، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله: {وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم}. وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحاً بالسلام والبركات وشرّك معه فيهما أمماً ناشئين ممن هم معه، وفيهم الناشئون من نوح عليه السلام لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده. فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادئ بدء قبل نسلهم إذ عُنون عنهم بوصف معية نوح عليه السّلام تنبيهاً على سبب كرامتهم. وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح عليه السّلام، فحصل تنويه نوح عليه السّلام وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع. وجملة {وأمم سنمتعهم} إلخ، عطف على جملة {اهبط بسلام منا} إلى آخرها، وهي استئناف بياني لأنّها تبيين لما أفاده التنكير في قوله: {وعلى أمم ممن معك} من الاحتراز عن أمم آخرين. وهذه الواو تسمى استينافية وأصلها الواو العاطفة وبعضهم يرجعها إلى الواو الزائدة، ويجوز أن تكون الواو للتقسيم، والمقصود: تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا، والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنهم من ذريّة نوح ولم يتبعوا سبيل جدّهم، فأشعروا بأنّهم من الأمم التي أنبأ الله نوحاً بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم. ونظير هذا قوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً} [الإسراء: 3] أي وكان المتحدث عنهم غير شاكرين للنعمة. وإطلاق المس على الإصابة القوية تقدّم عند قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو} في [الأنعام: 17]. وذكر {منا} مع {يمسهم} لمقابلة قوله في ضدّه {بسلام منا} ليعلموا أنّ ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسببّات العادية على أسبابها، إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسّموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألْسنة الرسل، فإنّ الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها. ومثاله ما هنا فقد بيّن لهم على لسان نوح عليه السّلام أنّه يمتع أمماً ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون.
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} استئناف أريد منه الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والتسلية. فالامتنان من قوله: {ما كنت تعلمها}. والموعظة من قوله: {فاصبر} إلخ. والتّسلية من قوله: {إن العاقبة للمتقين}. والإشارة ب {تلك} إلى ما تقدم من خبر نوح عليه السّلام، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة. والأنباء: جمع نَبأ، وهو الخبر. وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم. فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبيء يقال له: نوح عليه السلام أصاب قومَه طوفان، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدّعوا علمه. على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أبَاه وإصابته بالغرق، ومثل كلام الرّب مع نوح عليه السّلام عند هبوطه من السفينة، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك، وما دار بين نوح عليه السّلام وقومه من المحاورة، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب. وجملة {من أنبَاء الغيب ونوحيها وما كنتَ تعلمها} أخبار عن اسم الإشارة، أو بعضها خبر وبعضها حال. وضمير {أنت} تصريح بالضمير المستتر في قوله: {تَعلمها} لتصحيح العطف عليه. وعطف {ولا قومك} من الترقي، لأن في قومه من خالط أهل الكتاب ومن كان يقرأ ويكتب ولا يعلم أحد منهم كثيراً مما أوحي إليه من هذه القصة. والإشارة بقوله: {مِن قبل هذا} إما إلى القرآن، وإما إلى الوقت باعتبار ما في هذه القصة من الزيادة على ما ذكر في أمثالها مما تقدم نزوله عليها، وإما إلى {تلك} بتأويل النبأ، فيكون التذكير بعد التأنيث شبيهاً بالالتفات. ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حاله مع قومه على حال نوح عليه السّلام مع قومه، فكما صبر نوح عليه السّلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك. وخبر نوح عليه السّلام مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر. وجملة {إن العاقبة للمتقين} علة للصبر المأمور به، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين، فستكون لك وللمؤمنين معك. والعاقبة: الحالة التي تَعقب حالةً أخرى. وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله: {والعاقبة للتّقوى} [طه: 132]. والتعريف في {العاقبة} للجنس. واللام في {للمتقين} للاختصاص والملك، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم.
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)} عطف على {ولقد أرسَلنا نوحاً إلى قومه} [هود: 25]، فعطف {وإلى عاد} على {إلى قومه} [هود: 25]، وعطف {أخاهم} على {نوحاً} [هود: 25]، والتقدير: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. وهو من العطف على معموليْ عامل واحد. وتقديم المجرور للتنبيه على أن العطف من عطف المفردات لا من عطف الجمل لأن الجارّ لا بد له من متعلّق، وقضاءً لحق الإيجاز ليُحْضَر ذكر عَاد مرتين بلفظه ثم بضميره. ووصف (هود) بأنه أخو عاد لأنه كان من نسبهم كما يقال: يا أخا العرب، أي يا عربي. وتقدم ذكر عاد وهود في سورة الأعراف. وجملة {قال} مبينة للجملة المقدّرة وهي {أرسلنا} [هود: 25]. ووجه التصريح بفعل القول لأن فعل (أرسلنا) محذوف، فلو بين بجملة {يا قوم اعبدوا} كما بين في قوله: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين} [هود: 25] لكان بياناً لمعدوم وهو غير جليّ. وافتتاح دعوته بنداء قومه لاسترعاء أسماعهم إشارة إلى أهمية ما سيلقي إليهم. وجملة {ما لكم من إله غيره} حال من ضمير {اعبدوا} أو من اسم الجلالة. والإتيان بالحال الاستقصاد إبطال شركهم بأنّهم أشركوا غيره في عبادته في حال أنّهم لا إله لهم غيره، أو في حال أنّه لا إله لهم غيره. وذلك تشنيع للشّرك. وجملة {إن أنتم إلا مفترون} توبيخ وإنكار. فهي بيان لجملة {ما لكم من إله غيره}، أي ما أنتم إلاّ كاذبون في ادّعاء إلهية غير الله تعالى. وجملة {يا قوم لا أسألكم عليه أجراً} إن كان قالها مع الجملة التي قبلها فإعادة النداء في أثناء الكلام تكرير للأهمية، يقصد به تهويل الأمر واسترعاء السمع اهتماماً بما يستسمعونه، والنداء هو الرابط بين الجملتين؛ وإن كانت مقولة في وقت غير الذي قيلت فيه الجملة الأولى، فكونها ابتداء كلام ظاهر. وتقدم تفسير {لا أسألكم عليه أجراً} في قصة نوح عليه السّلام، أي لا أسألكم أجراً على ما قلته لكم. والتعبير بالموصول {الذي فطرني} دون الاسم العلم لزيادة تحقيق أنّه لا يسألهم على الإرشاد أجراً بأنه يعلم أن الذي خلقه يسوق إليه رزقه، لأن إظهار المتكلم علمه بالأسباب يكسب كلامه على المسببات قوة وتحقيقاً. ولذلك عطف على ذلك قوله: {أفلا تعقلون} بفاء التفريع عاطفة استفهاماً إنكارياً عن عدم تعقلهم، أي تأملهم في دلالة حاله على صدقه فيما يبلغ ونصحه لهم فيما يأمرهم. والعقل: العلم. وعطف جملة {ويا قوم} مثل نظيرها في قصة نوح عليه السّلام آنفاً. والاستغفار: طلب المغفرة للذنب، أي طلب عدم المؤاخذة بما مضى منهم من الشرك، وهو هنا مكنى به عن ترك عقيدة الشرك، لأن استغفار الله يستلزم الاعتراف بوجوده ويستلزم اعتراف المستغفر بذنب في جانبه ولم يكن لهم ذنب قبل مجيء هود عليه السّلام إليهم غير ذنب الإشراك إذ لم يكن له شرع من قبل. وأما ذنب الإشراك فهو متقرر من الشرائع السابقة جميعها فكان معلوماً بالضرورة فكان الأمر بالاستغفار جامعاً لجميع هذه المعاني تصريحاً وتكنية. والتوبة: الإقلاع عن الذنب في المستقبل والندم على ما سلف منه. وفي ماهية التوبة العزم على عدم العود إلى الذنب فيؤول إلى الأمر بالدّوام على التوحيد ونفي الإشراك. و {ثم} للترتيب الرتبي، لأن الدوام على الإقلاع أهم من طلب العفو عمّا سلف. و {يرسل السماء عليكم} جواب الأمر من {استغفروا}. والإرسال: بعْث من مكان بعيد فأطلق الإرسال على نزول المطر لأنه حاصل بتقدير الله فشبّه بإرسال شيء من مكان المرسل إلى المبعوث إليه. والسماء من أسماء المطر تسمية للشيء باسم مصدره. وفي الحديث: «خَطَبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر سماء.» و{مدراراً} حال من السماء صيغة مبالغة من الدرور وهو الصبّ، أي غزيراً. جعل جزاءهم على الاستغفار والتوبة إمدادهم بالمطر لأنّ ذلك من أعظم النّعم عليهم في الدنيا إذ كانت عاد أهل زرع وكروم فكانوا بحاجة إلى الماء، وكانوا يجعلون السّداد لخزن الماء. والأظهر أن الله أمسك عنهم المطر سنين فتناقص نسلهم ورزقهم جزاء على الشرك بعد أن أرسل إليهم هوداً عليه السّلام؛ فيكون قوله: {يرسل السماء} وعْداً وتنبيهاً على غضب الله عليهم، وقد كانت ديارهم من حضرموت إلى الأحْقاف مدناً وحللاً وقباباً. وكانوا أيضاً معجبين بقوة أمتهم وقالوا: {مَنْ أشد منا قوةٌ} [فصلت: 15] فلذلك جعل الله لهم جزاء على ترك الشرك زيادةَ قوتهم بكثرة العدد وصحة الأجسام وسعة الأرزاق، لأن كلّ ذلك قوة للأمة يجعلها في غنى عن الأمم الأخرى وقادرة على حفظ استقلالها ويجعل أمماً كثيرة تحتاج إليها. و {إلى قوتكم} متعلق ب {يزدكم}. وإنما عدّي ب {إلى} لتضمينه معنى يَضُمّ. وهذا وعد لهم بصلاح الحال في الدنيا رضي الله عنهم. وعطف عليه {ولا تتولوا مجرمين} تحذيراً من الرجوع إلى الشرك. والتولّي: الانصراف. وهو هنا مجاز عن الإعراض. و {مجرمين} حال من ضمير {تتولوا} أي متصفين بالإجرام، وهو الإعراض عن قبول أمر الله تعالى.
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بسواء}. محاورة منهم لهود عليه السّلام بجواب عن دعوته، ولذلك جردت الجملة عن العاطف. وافتتاح كلامهم بالنداء يشير إلى الاهتمام بما سيقولونه، وأنه جدير بأن يتنبه له لأنهم نزلوه منزلة البعيد لغفلته فنادوه، فهو مستعمل في معناه الكنائيّ أيضاً. وقد يكون مراداً منه مع ذلك توبيخه ولومه فيكون كناية ثانية، أو استعمال النّداء في حقيقته ومجازه. وقولهم: {ما جئتنا ببينة} بهتان لأنه أتاهم بمعجزات لقوله تعالى: {وتلك عادٌ جحدوا بآيات ربهم} [هود: 59] وإن كان القرآن لم يذكر آية معينة لهود عليه السّلام. ولعل آيته أنّه وعدهم عند بعثته بوفرة الأرزاق والأولاد واطّراد الخصب وفرة مطردة لا تنالهم في خلالها نكبة ولا مصيبة بحيث كانت خارقة لعادة النعمة في الأمم، كما يشير إليه قوله تعالى: {وقالوا مَن أشد منا قوةً} [فصلت: 15]. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء نبيء إلاّ أُوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» الحديث. وإنما أرادوا أن البيّنات التي جاءهم بها هود عليه السّلام لم تكن طبقاً لمقترحاتهم. وجعلوا ذلك علة لتصميمهم على عبادة آلهتهم فقالوا: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك}. ولم يجعلوا {وما نحن بتاركي} مفرّعاً على قولهم: {ما جئتنا ببينة}. و {عن} في {عن قولك} للمجاوزة، أي لا نتركها تركاً صادراً عن قولك، كقوله: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: 82]. والمعنى على أن يكون كلامه علة لتركهم آلهتهم. وجملة {إن نقول إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء} استئناف بياني لأنّ قولهم: {وما نحن لك بمؤمنين} من شأنه أن يثير للسامع ومن معه في أنفسهم أن يقولوا إن لم تؤمنوا بما جاء به أنّه من عند الله فماذا تعدُّون دعوته فيكم، أي نقول إنك ممسوس من بعض آلهتنا، وجعلوا ذلك من فعل بعض الآلهة تهديداً للنّاس بأنه لو تصدّى له جميعُ الآلهة لدكوه دكّاً. والاعتراء: النزول والإصابة. والباء للملابسة، أي أصابك بسوء. ولا شك أنهم يعنون أن آلهتهم أصابته بمسّ من قَبْل أن يقوم بدعوة رفض عبادتها لسبب آخر، وهو كلام غير جار على انتظام الحجّة، لأنه كلام ملفّق من نوع ما يصدر عن السفسطائيين، فجعلوه مجنوناً وجعلوا سبب جنونه مسّاً من آلهتهم، ولم يتفطنوا إلى دخَل كلامهم وهو أن الآلهة كيف تكون سبباً في إثارة ثائر عليها. والقول مستعمل في المقول اللساني، وهو يقتضي اعتقادهم مَا يقولونه. {قَالَ إنى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّى برئ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} {مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} {إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ}. لما جاءوا في كلامهم برفض ما دعاهم إليه وبجحد آياته وبتصميمهم على ملازمة عبادة أصنامهم وبالتنويه بتصرف آلهتهم أجابهم هود عليه السّلام بأنّه يشهد الله عليهم أنّه أبلغهم وأنّهم كابروا وجحدوا آياته. وجملة {أشهد الله} إنشاء لإشهاد الله بصيغة الإخبار لأنّ كل إنشاء لا يظهر أثره في الخلق من شأنه أن يقع بصيغة الخبر لما في الخبر من قصد إعلام السامع بما يضمره المتكلم، ولذلك كان معنى صيغ العقود إنشاءً بلفظ الخبر. ثمّ حمَلهم شهادة له بأنه بريء من شركائهم مبادرة بإنكار المنكر وإن كان ذلك قد أتوا به استطراداً، فلذلك كان تعَرّضه لإبطاله كالاعتراض بين جملة {إني أشهد الله} وجملة {فإن تولوا} [هود: 57] بناء على أن جملة {فإن تَولوا} إلى آخرها من كلام هود عليه السّلام، وسيأتي. ومعنى إشهاده فيراد من شركائهم تحقيق ذلك وأنه لا يتردّد على أمر جازم قد أوجبه المشهود عليه على نفسه. وأتى في إشهادهم بصيغة الأمر لأنه أراد مزاجة إنشاء الإشهاد دون رائحة معنى الإخبار. و (ما) في قوله: {مما تشركون} موصولة. والعائد محذوف. والتقدير: مما يشركونه. وماصدق الموصول الأصنام، كما دل عليه ضمير الجمع المؤكّدُ في قوله: {فكيدوني جميعاً}. ولما كانت البراءة من الشركاء تقتضي اعتقاد عجزها عن إلحاق إضرار به فرع على البراءة جملة {فكيدوني جميعاً}. وجعل الخطاب لقومه لئلا يكون خطابه لما لا يعقل ولا يسمع، فأمر قومه بأن يكيدوه. وأدخل في ضمير الكائدين أصنامهم مجاراة لاعتقادهم واستقصاء لتعجيزهم، أي أنتم وأصنامكم، كما دل عليه التفريع على البراءة من أصنامهم. والأمر ب (كيدوني) مستعمل في الإباحة كناية عن التعجيز بالنسبة للأصنام وبالنسبة لقومه، كقوله تعالى: {فإن كان لكم كيدٌ فكيدون} [المرسلات: 39]. وهذا إبطال لقولهم: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء}. و {ثم} للتراخي الرتبيّ؛ تحدّاهم بأن يكيدوه ثم ارتقى في رتبة التعجيز والاحتقار فنهاهم عن التأخير بكيدهم إياه، وذلك نهاية الاستخفاف بأصنامهم وبهم وكناية عن كونهم لا يصلون إلى ذلك. وجملة {إنّي توكلت} تعليل لمضمون {فكيدوني} وهو التعجيز والاحتقار. يعني: أنه واثق بعجزهم عن كيده لأنه متوكل على الله، فهذا معنى ديني قديم. وأُجري على اسم الجلالة صفة الربوبية استدلالاً على صحة التوكل عليه في دفع ضرهم عنه، لأنه مالكهم جميعاً يدفع ظلم بعضهم بعضاً. وجملة {ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها} في محل صفة لاسم الجلالة، أو حال منه، والغرض منها مثل الغرض من صفة الربوبية. والأخذ: الإمساك. والناصية: ما انسدل على الجبهة من شعر الرأس. والأخذ بالناصية هنا تمثيل للتمكّن، تشبيهاً بهيئة إمساك الإنسان من ناصيته حيث يكون رأسه بيد آخذه فلا يستطيع انفلاتاً. وإنما كان تمثيلاً لأن دواب كثيرة لا نواصي لها فلا يلتئم الأخذ بالناصية مع عموم {ما من دابة}، ولكنه لما صار مثلاً صار بمنزلة: ما من دابة إلا هو متصرف فيها. ومن بديع هذا المثل أنّه أشدّ اختصاصاً بالنوع المقصود من بين عموم الدّواب، وهو نوع الإنسان. والمقصود من ذلك أنّه المالك القاهر لجميع ما يدبّ على الأرض، فكونه مالكاً للكلّ يقتضي أن لا يفوته أحد منهم، وكونه قاهراً لهم يقتضي أن لا يعجزه أحد منهم. وجملة {إن ربّي على صراط مستقيم} تعليل لجملة {إنّي توكّلت على الله}، أي توكّلت عليه لأنّه أهل لتوكلي عليه، لأنّه متّصف بإجراء أفعاله على طريق العدل والتأييد لرسله. و {على للاستعلاء المجازي، مثل أولئك على هدىً من ربهم} [البقرة: 5] مستعارة للتمكّن المعنوي، وهو الاتّصاف الراسخ الذي لا يتغير. والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة لأنّ العدل يشبّه بالاستقامة والسواء. قال تعالى: {فاتبعني أهدك صراطاً سويّاً} [مريم: 43]. فلا جرم لا يُسْلم المتوكّل عليه للظّالمين.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} تفريع على جملة {إنّي أشهد الله} [هود: 54]. وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأنّ مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة {إنّي أشهد الله} [هود: 54] بناء على أنّ هذا من كلام هود عليه السّلام. وعلى هذا الوجه يكون أصل {تولوا} تتولوا فحذفت إحدى التّاءين اختصاراً، فهو مضارع، وهو خطاب هود عليه السّلام لقومه، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة. ويجوز أن تكون فعلاً ماضياً، والواو لأهل مكّة فيكون كالاعتراض في إجراء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصّة نوح عليه السّلام بقوله: {أم يقولون افتراه قل إن افتريته} [هود: 35] الآية. خاطب الله نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمره بأن يقول لهم: {قد أبلغتكم}. والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة {فقد أبلغتكم} من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مقولَ قول مَأمور به محذوف يدلّ عليه السياق. والتقدير: فقل قد أبلغتكم. وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجّه المحتمل معنيين غير متخالفين، وهو من بديع أساليب الإعجاز، ولأجله جاء فعل {تولوا} بتاء واحدة بخلاف ما في قوله: {وَإنْ تتولوا يستبدل قوماً غيركم} [محمد: 38]. والتولّي: الإعراض. وقد تقدّم في قوله تعالى: {ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}، في سورة [النساء: 80]. وجعل جوابُ شرط التولّي قوله: فقد أبلغتكم} مع أنّ الإبلاغ سابق على التولّي المجعول شرطاً لأنّ المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ، وهو انتفاء تبعة تولّيهم عنه وبراءته من جرمهم لأنّه أدّى ما وجب عليه من الإبلاغ، فإنْ كان من كلام هود عليه السّلام ف {ما أرسلت به} هو ما تقدّم، وإنْ كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصّة قوم هود عليه السّلام. وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولّي عليهم ونزول العقاب بهم، ولذلك عطف {ويستخلف ربّي قوماً غيركم} أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم، وهذا كقوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38]. وارتفاع {يستخلف} في قراءة الكافّة لأنّه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم. وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصوداً بذاته لا تبعاً للجواب، فبذلك يكون مقصوداً به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال. وكذلك جملة {ولا تضرونه شيئاً} والمراد لا تضرون الله بتولّيكم شيئاً و{شيئاً} مصدر مؤكد لفعل {تضرونه} المنفي. وتنكيره للتّقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالباً. والمقصود من التّأكيد التّنصيص على العموم بنفي الضر لأنّه نكرة في حيّز النفي، أي فالله يلحق بكم الاستئصال، وهو أعظم الضر، ولا تضرونه أقلّ ضر؛ فإنّ المعروف في المقارعات والخصومات أنّ الغالب المضرّ بعدوّه لا يخلو من أن يَلحقه بعض الضرّ من جرّاء المقارعة والمحاربة. وجملة {إنّ ربّي على كل شيء حفيظ} تعليل لجملة {ولا تضرّونه شيئاً}، فموقع {إنّ} فيها موقع فاء التفريع. والحفيظ: أصله مبالغة الحافظ، وهو الذي يضع المحفوظ بحيث لا يناله أحد غير حافظه، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر.
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)} استعمال الماضي في قوله: {جاء أمرنا} بمعنى اقتراب المجيء لأن الإنجاء كان قبل حلول العذاب. والأمر أطلق على أثر الأمر، وهو ما أمر الله به أمرَ تكوين، أي لمّا اقترب مجيء أثر أمرنا، وهو العذاب، أي الريح العظيم. ومتعلّق {نجّينا} الأول محذوف، أي من العذاب الدال عليه قوله: {ولما جاء أمرنا}. وكيفيّة إنجاء هود عليه السّلام ومن معه تقدّم ذكرها في تفسير سورة الأعراف. والباء في {برحمة منّا} للسببيّة، فكانت رحمة الله بهم سبباً في نجاتهم. والمراد بالرحمة فضل الله عليهم لأنّه لو لم يرحمهم لشملهم الاستئصال فكان نقمة للكافرين وبَلوى للمؤمنين. وجملة {ونجّيناهم من عذاب غليظ} معطوفة على جملة {ولمّا جاء أمرنا}. والتّقدير وأيضاً نجّيناهم من عذاب شديد وهو الإنجاء من عذاب الآخرة وهو العذاب الغليظ. ففي هذا منّة ثانية على إنجاء ثان، أي نجّيناهم من عذاب الدّنيا برحمة منّا ونجّيناهم من عذاب غليظ في الآخرة، ولذلك عطف فعل {نجّيناهم} على {نجّينا}، وهذان الإنجاءان يقابلان جمع العذابين لعاد في قوله: {وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة} [هود: 60]. وقد ذكر هنا متعلّق الإنجاء وحذف السبب عكس ما في الجملة الأولى لظهور أنّ الإنجاء من عذاب الآخرة كان بسبب الإيمان وطاعة الله كما دلّ عليه مقابلته بقوله: {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله} [هود: 59]. والغليظ حقيقته: الخشن ضدّ الرقيق، وهو مستعار للشّديد. واستعمل الماضي في {ونجّيناهم} في معنى المستقبل لتحقق الوعد بوقوعه.
{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} الإشارة ب {تِلك} حاضر في الذّهن بسبب ما أجري عليه من الحديث حتى صار كأنّه حاضر في الحسّ والمشاهدة. كقوله تعالى: {تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها} [الأعراف: 101] وكقوله: {أولئك على هدىً من ربّهم} [البقرة: 5]، وهو أيضاً مثله في أنّ الإتيان به عقب الأخبار الماضية عن المشار إليهم للتنبيه على أنّهم جديرون بما يأتي بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل تلك الأوصاف المتقدّمة. وتأنيث اسم الإشارة بتأويل الأمّة. و {عاد} بيان من اسم الإشارة. وجملة {جحدوا} خبر عن اسم الإشارة. وهو وما بعده تمهيد للمعطوف وهو {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة} لزيادة تسجيل التّمهيد بالأجرام السّابقة، وهو الذي اقتضاه اسم الإشارة كما تقدّم، لأنّ جميع ذلك من أسباب جمع العذابين لهم. والجحد: الإنكار الشّديد، مثل إنكار الواقعات والمشاهدات. وهذا يدلّ على أنّ هوداً أتاهم بآيات فأنكروا دلالتها. وعدي {جَحدوا} بالباء مع أنّه متعدّ بنفسه لتأكيد التّعدية، أو لتضمينه معنى كفروا فيكون بمنزلة ما لو قيل: جحدوا آيات ربّهم وكفروا بها، كقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14]. وجمع الرسل في قوله: {وعصَوا رُسلَه} وإنّما عَصَوْا رَسولاً واحداً، وهو هود عليه السّلام لأنّ المراد ذكر إجرامهم فناسب أن يناط الجرم بعصيان جنس الرسل لأن تكذيبهم هوداً لم يكن خاصاً بشخصه لأنهم قالوا له: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك} [هود: 53]، فكل رسول جاء بأمر ترك عبادة الأصنام فهم مكذبون به. ومثله قوله تعالى: {كذّبت عادٌ المرسلين} [الشعراء: 123]. ومعنى اتباع الآمر: طاعة ما يأمرهم به، فالاتّباع تمثيل للعمل بما يملى على المتبع، لأنّ الآمر يشبه الهادي للسائر في الطريق، والممتثلَ يشبه المتبع للسائر. والجبار: المتكبّر. والعنيد: مبالغة في المعاندة. يقال: عند مثلث النون إذا طغى، ومن كان خلقه التجبّر، والعنود لا يأمر بخير ولا يدعو إلاّ إلى باطل، فدلّ اتّباعهم أمر الجبابرة المعاندين على أنّهم أطاعوا دعاة الكفر والضلال والظلم. و {كل} من صيغ العموم، فإنْ أريد كلّ جبار عنيد من قومهم فالعموم حقيقي، وإنْ أريد جنس الجبابرة ف {كلّ} مستعملة في الكثرة كقول النابغة: بها كلّ ذَيّال وخنساءَ ترعوي ومنه قوله تعالى: {يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ} في سورة [الحج: 27]. وإتْباع اللعنة إيّاهم مستعار لإصابتها إيّاهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه. وممّا يزيد هذه الاستعارة حسناً ما فيها من المشاركة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنّهم اتّبعوا الملعونين فأتبعوا باللّعنة. وبني فعل أتبعوا} للمجهول إذْ لاَ غرض في بيان الفاعل، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أنّ إتْبَاعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنّها تبعتهم عقاباً من الله لا مجرّد مصادفة. واللّعنة: الطرد بإهانة وتحقير. وقرن الدنيا باسم الإشارة لقصد تهوين أمرها بالنّسبة إلى لعنة الآخرة، كما في قول قيس بن الخطيم: متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسي إلاّ قدْ قضيت قضاءها أومأ إلى أنّه لا يكترث بالموت ولا يهابه. وجملة {ألاَ إنّ عاداً كفروا ربّهم} مستأنفة ابتدائية افتتحت بحرف التنبيه لِتهويل الخبر ومؤكدة بحرف {إنّ} لإفادة التعليل بجملة {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة} تعريضاً بالمشركين ليعتبروا بما أصاب عاداً. وعدّيَ {كفروا ربّهم} بدون حرف الجر لتضمينه معنى عَصَوْا في مقابلة {واتّبعوا أمر كلّ جبّارٍ عنيدٍ}، أو لأنّ المراد تقدير مضاف، أي نعمة ربّهم لأنّ مادّة الكفر لا تتعدّى إلى الذات وإنما تتعدى إلى أمر معنوي. وجملة {ألا بعداً لعاد} ابتدائية لإنشاء ذمّ لهم. وتقدّم الكلام على {بعْداً} عند قوله في قصّة نوح عليه السّلام {وقيل بعداً للقوم الظالمين} [هود: 44]. و {قوم هود} بيان ل (عاد) أو وصف ل (عاد) باعتبار ما في لفظ {قوم} من معنى الوصفية. وفائدة ذكره الإيماء إلى أنّ له أثراً في الذمّ بإعراضهم عن طاعة رسولهم، فيكون تعريضاً بالمشركين من العرب، وليس ذكره للاحتراز عن عاد أخرى وهم إرَم كما جوّزه صاحب «الكشاف» لأنّه لا يعرف في العرببِ عاد غير قوم هود وهم إرم، قال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بِعادٍ إرَم ذات العماد} [الفجر: 6، 7].
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)} قوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً إلى قوله غيره} الكلام فيه كالذي في قوله: {وإلى عَاد أخاهم هودا} [هود: 50] إلخ. وذكر ثمود وصالح عليه السّلام تقدّم في سورة الأعراف. وثمود: اسم جدّ سميت به القبيلة، فلذلك منع من الصرف بتأويل القبيلة. وجملة {هو أنشأكم من الأرض} في موضع التّعليل للأمر بعبادة الله ونفي إلهية غيره، وكأنهم كانوا مثل مشركي قريش لا يدّعون لأصنامهم خلقاً ولا رزقاً، فلذلك كانت الحجّة عليهم ناهضة واضحة. والإنشاء: الإيجاد والإحداث، وتقدّم في قوله تعالى: {وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين} في [الأنعام: 6]. وجَعل الخبرين عن الضمير فعلين دون: هو منشئكم ومستعمركم لإفادة القَصر، أي لم ينشئكم من الأرض إلاّ هو، ولم يستعمركم فيها غيره. والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال في سورة [الشعراء: 146 148] {أتتْركون فيما هاهنا آمنين في جنّاتتٍ وعيوننٍ وزروععٍ ونخللٍ طلعها هضيمٌ} ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً، كما قال في الآية الأخرى: {وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصُوراً وتنحتون الجبال بيوتاً} [الأعراف: 74]، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها، ولذلك عطف عليه {واستعمركم فيها}. والاستعمار: الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض. وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتّوبة إليه، أي طلب مغفرة أجرامهم، والإقلاع عمّا لا يرضاه من الشرك والفساد. ومن تفنّن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علّة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التّعليل، وجعلت علّة أيضاً للأمر بالاستغفار والتّوبة بطريق التّفريع. وعطف الأمر بالتّوبة بحرف التّراخي للوجه المتقدّم في قوله: {ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه} [هود: 51] في الآية المتقدمة. وجملة {إنّ ربّي قريب مجيب} استئناف بيانيّ كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم ممّا يقبل الاستغفار عنه، فأجيبوا بأنّ الله قريب مجيب، وبذلك ظهر أنّ الجملة ليست بتعليل. وحرف {إنّ} فيها للتّأكيد تنزيلاً لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشكّ في قبول استغفاره. والقرب: هنا مستعار للرأفة والإكرام، لأنّ البعد يستعار للجفاء والإعراض. قال جبير بن الأضبط: تباعد عنّي مطحل إذ دعوته *** أمين فزاد الله ما بيننا بعداً فكذلك يستعار ضدّه لضدّه، وتقدّم في قوله: {فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الداعِ} في سورة [البقرة: 186]. والمجيب هنَا: مجيب الدّعاء، وهو الاستغفار. وإجابة الدّعاء: إعطاء السائل مسؤوله.
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)} هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة المَلأى إرشاداً وهدياً. وهو جواب مُلئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة. وافتتاح الكلام بالنّداء لقصد التوبيخ أو الملام والتّنبيه، كما تقدّم في قوله: {قالوا يا هود ما جئتنا ببيّنة} [هود: 53]. وقرينة التّوبيخ هنا أظهر، وهي قولهم: {قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} فإنّه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف. و {قد} لتأكيد الخبر. وحذف متعلّق {مرجواً} لدلالة فعل الرجاء على أنّه ترقب الخير، أي مرجواً للخير، أي والآن وقع اليأس من خيرك. وهذا يفهم منه أنّهم يَعدّون ما دعاهم إليه شرّاً، وإنما خاطبوه بمثل هذا لأنّه بعث فيهم وهو شاب (كذا قال البغوي في تفسير سورة الأعراف) أي كنت مرجواً لخصال السيادة وحماية العشيرة ونصرة آلهتهم. والإشارة في {قبل هذا} إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم. وجملة {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} بيان لجملة {قد كنت فينا مرجواً} باعتبار دلالتها على التعنيف، واشتمالها على اسم الإشارة الذي تبيّنه أيضاً جملة {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا}. والاستفهام: إنكار وتوبيخ. وعبّروا عن أصنامهم بالموصول لِمَا في الصّلة من الدّلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداءً بآبائهم لأنّهم أسوة لهم، وذلك ممّا يزيد الإنكار اتّجاهاً في اعتقادهم. وجملة {وإنّنا لفي شك} معطوفة على جملة {يا صالح قد كنت فينا مرجواً}، فبعد أن ذكروا يأسهم من صلاح حاله ذكروا أنّهم يشكون في صدق أنه مرسل إليهم وزادوا ذلك تأكيداً بحرف التأكيد. ومن محاسن النّكت هنا إثبات نون (إنّ) مع نون ضمير الجمع لأنّ ذلك زيادة إظهار لحرف التوْكيد والإظهار ضرب من التحقيق بخلاف ما في سورة إبراهيم (9) من قول الأمم لرسلهم: {وإنّا لفي شكّ ممّا تدعوننا} لأنّ الحكاية فيها عن أمم مختلفة في درجات التّكذيب، ولأنّ ما في هاته الآية خطاب لواحد، فكان {تدعونا} بنون واحدة هي نون المتكلم ومَعهُ غيره فلم يقع في الجملة أكثر من ثلاث نونات بخلاف ما في سورة إبراهيم لأنّ الحكاية هنالك عن جمع من الرسل في (تدعُوننا) فلو جاء (إنّنا) لاجتمع أربع نونات. والمريب: اسم فاعل من أراب إذا أوقع في الريب، يقال: رابه وأرابه بمعنى، ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم: جدّ جدّه.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)} جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة {قال} وهو الشّأن في حكاية المحاورات كما تقدّم غير مرة. وابتداء الجواب بالنّداء لقصد التّنبيه إلى ما سيقوله اهتماماً بشأنه. وخاطبهم بوصف القوميّة له للغرض الذي تقدّم في قصة نوح. والكلام في قوله: {أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني منه رحمة} كالكلام على نظيرها في قصة نوح. وإنّما يتّجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم {منه} على {رحمة} هنا، وتأخير {من عنده} [هود: 28] عن {رحمة} [هود: 28] في قصة نوح السابقة. فالجواب لأنّ ذلك مع ما فيه من التّفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل، هو أيضاً أسعد بالبيان في وضوح الدّلالة ودفع اللبس. فلمّا كان مجرور (من) الابتدائية ظرفاً وهو (عند) كان صريحاً في وصف الرّحمة بصفة تدلّ على الاعتناء الربّانيّ بها وبمَن أوتيَهَا. ولمّا كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل {آتاني} ليكون تقييدُ الإيتاء بأنّه من الله مشير إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لولا ذلك لكان كونه من الله تحصيلاً لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه، فتعيّن أن يكون المراد إيتاءً خاصاً، ولو أوقع {منه} عقب {رحمة} لتوهّم السامع أنّ ذلك عوض عن الإضافة، أي عن أن يقال: وآتاني رحمته، كقوله: {ولنجعله آيةً للنّاس ورحمةً منا} [مريم: 21] أي ورحمتنا لهم، أي لنعظَهم ونرحَمَهم. وجملة {فمن ينصرني من الله} جواب الشرط وهو {إن كنت على بيّنة}. والمعنى إلزام وجدل، أي إن كنتم تنكرون نبوءتي وتوبّخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأنّي على بيّنة من ربّي، أفترون أنّي أعدل عن يقيني إلى شكّكم، وكيف تتوقّعون منّي ذلك وأنتم تعلمون أنّ يقيني بذلك يجعلني خائفاً من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني. والكلام على قوله: {مَنْ ينصرني من الله إن عصيته} كالكلام على قوله: {من ينصرني من الله إن طردتهم} [هود: 30] في قصة نوح. وفُرع على الاستفهام الإنكاري جملة: {فما تزيدونني غيرَ تخسير} أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إيّاي إلا سعي في خسراني. والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجوداً لأنّ ذلك زيادة في أحوال الإنسان، أي فما يحدث لي إن اتّبعتُكم وعصيتُ الله إلاّ الخسرانُ، كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام: {فلم يزدهم دعائي إلاّ فِرارا} [نوح: 6]، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلمّا كرّرت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففرُّوا، وليس المعنى أنّهم كانوا يفرّون فزادوا في الفرار لأنّه لو كان كذلك لقيل هنالك: فلم يزدهم دعائي إلاّ من فرار، ولقيل هنا: فما تزيدونني إلاّ من تخسير. والتّخسير، مصدر خسر، إذا جعله خاسراً.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)} هذا جواب عن قولهم: {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62] فأتاهم بمعجزة تزيل الشك. وإعادة {ويا قوم} لمثل الغرض المتقدّم في قوله في قصة نوح {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم} [هود: 30]. والإشارة بهذه إلى الناقة حين شاهدوا انفلاق الصّخرة عنها. وإضافة النّاقة إلى اسم الجلالة لأنّها خُلقت بقدرة الله الخارقة للعادة. و {آية} و{لكم} حالان من ناقة، وتقدّم نظير هذه الحال في سورة الأعراف. وستجيء قصة في إعرابها عند قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخاً} في هذه السورة: [72]. وأوصاهم بتجنب الاعتداء عليها لتوقّعه أنّهم يتَصَدّون لها من تصلبهم في عنادهم. وقد تقدّم عقرها في سورة الأعراف. والتمتع: الانتفاع بالمتاع. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ومتاعٌ إلى حينٍ} في سورة [الأعراف: 24]. والدّار: البلد، وتقدّم في قوله تعالى: {فأصبحوا في دارهم جاثمين} في سورة [الأعراف: 78]، وذلك التأجيل استقصاءٌ لهم في الدعوة إلى الحقّ. والمكذوب: الذي يُخبر به الكاذب. يقال: كذَب الخبرَ، إذا اختلقه.
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} تقدّم الكلام على نظائر بعض هذه الآية في قصّة هود في سورة الأعراف. ومتعلّق {نجينا} محذوف. وعطف {ومن خِزي يومئذٍ} على متعلّق {نجّينا} المحذوف، أي نجّينا صالحاً عليه السّلام ومَن معه من عذاب الاستئصال ومن الخزي المكيّف به العذاب فإنّ العذاب يكون على كيفيات بعضها أخزى من بعض. فالمقصود من العطف عطف منّة على منّة لا عطف إنجاء على إنجاء، ولذلك عطف المتعلّق ولم يعطف الفعل، كما عطف في قصة عاد {نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منّا ونجّيناهم من عذاب غليظ} [هود: 58] لأنّ ذلك إنجاء من عذاب مغاير للمعطوف عليه. وتنوين {يومئذٍ} تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير: يوم إذ جاء أمرنا. والخزي: الذّلّ، وهو ذلّ العذاب، وتقدّم الكلام عليه قريباً. وجملة {إنّ ربّك هو القوي العزيز} معترضة. وقد أكد الخبر بثلاث مؤكدات للاهتمام به. وعبّر عن ثمود بالّذين ظلموا للإيماء بالموصول إلى علّة ترتب الحكم، أي لظلمهم وهو ظلم الشّرك. وفيه تعريض بمشركي أهل مكّة بالتّحذير من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك لأنّهم ظالمون أيضاً. والصيحة: الصّاعقة أصابتهم. ومعنى {كأنْ لم يغنوا فيها} كأن لم يقيموا. وتقدّم شعيب في الأعراف. وقرأ الجمهور «ألا إنّ ثموداً» بالتنوين على اعتبار ثمود اسم جَدّ الأمة. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، ويعقوب، بدون تنوين على اعتباره اسماً للأمّة أو القبيلة. وهما طريقتان مشهورتان للعرب في أسماء القبائل المسمّاة بأسماء الأجداد الأعلين. وتقدّم الكلام على {بُعداً} في قصة نوح {وقيل بعداً للقوم الظالمين} [هود: 44].
{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} عطف قصة على قصة. وتأكيد الخبر بحرف (قد) للاهتمام به كما تقدّم في قوله: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [هود: 25]. والغرض من هذه القصّة هو: الموعظة بمصير قوم لوط إذْ عصوا رسول ربّهم فحلّ بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة إبراهيم. وقدّمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربّه على وجه الإدماج، ولذلك غيّر أسلوب الحكاية في القصص الّتي قبلها والتي بعدها نحو {وإلى عاد} [هود: 50] إلخ. والرّسل: الملائكة. قال تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} [فاطر: 1]. والبشرى: اسم. للتبشير والبشارة. وتقدّم عند قوله تعالى: {وبشّر الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات} في أوّل سورة [البقرة: 25]. هذه البشرى هي التي في قوله: فبشّرناها بإسحاق} لأنّ بشارة زوجه بابننٍ بشارة له أيضاً. والباء في {بالبشرى} للمصاحبة لأنّهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها. وجملة {قالوا سلاماً} في موضع البيان ل {البشرى}، لأنّ قولهم ذلك مبدأ البشرى، وإنّ ما اعترض بينها حكاية أحوال، وقد انتهى إليها في قوله: {فبشّرناها بإسحاق إلى قوله إنّه حميد مجيد}. والسّلام: التحيّة. وتقدّم في قوله: {وإذا جاءك الّذين يؤمنون بآياتنا فقل سلامٌ عليكم} في سورة [الأنعام: 54]. وسلاماً} مفعول مطلق وقع بَدَلاً من الفعل. والتّقدير: سلّمنا سلاماً. و {سلام} المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمري سلام، أي لكم، مثل {فصبرٌ جميلٌ} [يوسف: 18]. ورفع المصدر أبلغ من نصبه، لأنّ الرّفع فيه تناسي معنى الفعل فهو أدلّ على الدّوام والثّبات. ولذلك خالف بينهما للدّلالة على أنّ إبراهيم عليه السّلام ردّ السّلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام. قال ابن عطيّة: حيّاً الخليل بأحسن ممّا حُيّيَ به، أي نظراً إلى الأدب الإلهي الذي عَلّمَهُ لَنَا في القرآن بقوله: {وإذا حيّيتم بتحيةٍ فَحَيّوا بأحسن منها أو رُدُّوها} [النساء: 86]، فَحكيَ ذلك بأوجز لفظ في العربية أداءً لمعنى كلام إبراهيم عليه السّلام في الكلدانيّة. وقرأ الجمهور {قال سَلامٌ} بفتح السّين وبِألِف بعد اللاّم. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: {قال سِلْم} بكسر السّين وبدون ألِف بعد اللاّم وهو اسم المسالمة. وسمّيت به التحية كما سمّيت بمرادفِه (سَلام) فهو من باب اتّحاد وزن فَعال وفِعْل في بعض الصفات مثل: حرام وحِرم، وحلال وحلّ. والفاء في قوله: {فما لبث} للدّلالة على التعقيب إسراعاً في إكرام الضّيف، وتعجيل القرى سنّة عربيّة: ظنهم إبراهيم عليه السّلام ناساً فبادر إلى قراهم. واللّبث في المكان يقتضي الانتقال عنه، أيْ فما أبطأ. و{أن جاء} يجوز أن يكون فاعل {لَبِثَ}، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ، أي فما أبطأ مَجيئه مصاحباً له، أي بل عجّل. ويجوز جعل فاعل {لبث} ضمير إبراهيم عليه السّلام فيقدّر جارّ ل {جاء}. والتّقدير: فما لبث بأن جاء به. وانتفاء اللبث مبالغة في العجل. والحنيذ: المشوي، وهو المحنوذ. والشيُّ أسْرَع من الطبخ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف. و {لا تصل إليه} أشد في عدم الأخذ من (لا تتناوله). ويقال: نكر الشيء إذا أنكره أي كرهه. وإنّما نكرهم لأنّه حسب أنّ إمساكهم عن الأكل لأجل التبرّؤ من طعامه، وإنّما يكون ذلك في عادة النّاس في ذلك الزّمان إذا كان النّازل بالبيت يضمر شرّاً لمضيّفه، لأنّ أكل طعام القرى كالعهد على السّلامة من الأذى، لأنّ الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة، فإذا انكفّ أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنّه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفوراً للإحسان. ولذلك عقب قوله {نكرهم} ب {أوجس منهم خيفة}، أي أحسّ في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك. ومصدره الإيجاس. وذلك أنّه خشي أن يكونوا مضمرين شرّاً له، أي حسبهم قطّاعاً، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم عليه السّلام وحده. وجملة {قالوا لا تخف} مفصولة عمّا قبلها، لأنّها أشبهت الجواب، لأنّه لمّا أوجس منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله إنّي خفت منكم، ولذلك أجابوا ما في نفسه بقولهم: {لا تَخف}، فحكي ذلك عنهم بالطّريقة الّتي تحكى بها المحاورات، أو هو جواب كلام مقدّر دلّ عليه قوله: {وأوجس منهم خيفة}، أي وقال لهم: إنّي خفت منكم، كما حكي في سورة [الحجر: 52] {قال إنّا منكم وَجِلون} ومن شأن النّاس إذا امتنع أحد من قبول طعامهم أن يقولوا له: لعلّك غادر أو عَدوّ، وقد كانوا يقولون للوافد: أحَرْبٌ أم سِلْمٌ. وقولهم: {إنّا أرسلنا إلى قوم لوط} مكاشفة منهم إيّاه بأنّهم ملائكة. والجملة استئناف مبينة لسبب مجيئهم. والحكمةُ من ذلك كرامة إبراهيم عليه السّلام وصدورهم عن علم منه. وحذف متعلّق {أرسلنا} أي بأي شيء، إيجازاً لظهوره من هذه القصّة وغيرها. وعبّر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة {قوم لوط} إذ لم يكن لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نسب بل كانوا خليطاً من فصائل عرفوا بأسماء قراهم، وأشهرها سدوم كما تقدّم في الأعراف. وجملة {وامرأته قائمة فضحكت} في موضع الحال من ضمير {أوجس}، لأنّ امرأة إبراهيم عليه السّلام كانت حاضرة تقدّم الطّعام إليهم، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أنّ ربة المنزل تكون خادمة القوم. وفي الحديث «والعروس خادمهم» وقال مرّة بن محكان التميمي يا ربّة البيت قومي غير صاغرة *** ضُمّي إليك رجال القوم والغربا وقد اختصرت القصة هنا اختصاراً بديعاً لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم عليهم السّلام، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم: {لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط}. وأمّا البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنّهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة [الذاريات: 28] {فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخَف وبشّروه بغلاممٍ عليمٍ. فلمّا اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة قالوا لا تخف} حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال، لأنّ الحال تصلح للقبْليّة وللمقارنَة وللبعدية، وهي الحال المقدّرة. وإنّما ضحكت امرأة إبراهيم عليه السّلام من تبشير الملائكة إبراهيم عليه السّلام بغلام، وكان ضحكها ضحك تعجّب واستبعاد. وقد وقع في التّوراة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين «وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة. فقالوا: يكون لسارة امرأتك ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة: أفبالحقيقة ألِدُ وأنا قد شِخت؟ فقال الربّ: لماذا ضحكتْ سارة؟ فأنكرت سارة قائلة لم أضحك، لأنّها خافت، قال: لا بل ضحكت». وتفريع {فبشّرناها بإسحاق} على جملة {ضحكت} باعتبار المعطوف وهو {ومن وراء إسحاق يعقوب} لأنّها ما ضحكت إلاّ بعد أن بشّرها الملائكة بابن، فلمّا تعجبت من ذلك بشّروها بابن الابن زيادة في البشرى. والتّعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتّى يولد لابنها ابن. وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالباً إلاّ معلولين، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم. ولما بشّروها بذلك صرحت بتعجبها الذي كتمته بالضحك، فقالت: {يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيءٌ عجيب}، فجملة {قالت} جواب للبشارة. و (يعقوب) مبتدأ {ومن وراء إسحاق} خبر، والجملة على هذا في محلّ الحال. وهذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص {يعقوبَ} بفتحة وهو حينئذٍ عطف على {إسحاق}. وفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وخطبه سهل وإن استعظمه ظاهرية النحاة كأبي حيان بقياس حرف العطف النائب هنا مناب الجار على الجار نفسه، وهو قياس ضعيف إذ كون لفظ بمعنى لفظ لا يقتضي إعطاءه جميع أحكامه كما في «مغني اللبيب». والنداء في {يا ويلتا} استعارة تبعية بتنزيل الويلة منزلة من يعقل حتّى تنادى، كأنها تقول: يا ويلتي احضر هنا فهذا موضعك. والويلة: الحادثة الفظيعة والفضيحة. ولعلّها المرة من الويل. وتستعمل في مقام التعجب، يقال: يا ويلتي. واتّفق القرّاء على قراءة {يا ويلتا} بفتحة مشبعة في آخره بألف. والألف التي في آخر {يا ويلتا} هنا يجوز كونها عوضاً عن ياء المتكلم في النداء. والأظهر أنها ألف الاستغاثة الواقعة خلَفاً عن لام الاستغاثة. وأصله: يا لَويلة. وأكثر ما تجيء هذه الألف في التعجّب بلفظ عجب، نحو: يا عجباً، وباسم شيء متعجب منه، نحو: يا عشبا. وكتب في المصحف بإمالة ولم يقرأ بالإمالة، قال الزجاج: كتب بصورة الياء على أصل ياء المتكلم. والاستفهام في {أألد وأنا عجوز} مستعمل في التعجب. وجملة {أنا عجوز} في موضع الحال، وهي مناط التعجب. والبعل: الزوج. وسيأتي بيانه عند تفسير قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلاّ لبعولتهن} في سورة [النّور: 31]، فانظره. وزادت تقرير التعجب بجملة {إنّ هذا لشيء عجيب} وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها لكمال الاتّصال، وكأنّها كانت متردّدة في أنهم ملائكة فلم تطمئنّ لتحقيق بشراهم. وجملة {هذا بعلي} مركبة من مبتدأ وخبر لأنّ المعنى هذا المشار إليه هو بعلي، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى. وانتصب {شيخاً} على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة. وقرأ ابن مسعود {وهذا بعلي شيخ} برفع شيخ على أن (بعلي) بيان من (هذا) و(شيخ) خبر المبتدأ. ومعنى القراءتين واحد. وقد جرت على هذه القراءة النادرة لطيفة وهي: ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم بوحاجب أنّ أبا العبّاس المبرّد دُعي عند بعض الأعيان في بغداد إلى مأدبة، فلمّا فرغوا من الطّعام غنّت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين: وقالوا لها هذا حبيبك معرضٌ *** فقالت: ألاَ إعراضه أهون الخطب فما هي إلاّ نظرة وابتسامة *** فتصطكّ رجلاه ويسقط للجنب فطرب كل من بالمجلس إلاّ أبا العبّاس المبرد فلم يتحرك، فقال له رب المنزل: ما لك لم يطربك هذا؟. فقالت الجارية: مَعذُور يحسبني لحنت في أن قلت: معرضٌ بالرفع ولم يعلم أنّ عبد الله بن مسعود قرأ «وهذا بعلي شيخٌ» فطرب المبرد لهذا الجواب. وجواب الملائكة إياها بجملة {أتعجبين من أمر الله} إنكار لتعجبها لأنه تعجّبٌ مراد منه الاستبعاد. و{أمر الله} هو أمر التكوين، أي أتعجبين من قدرة الله على خرق العادات. وجوابهم جار على ثقتهم بأن خبرهم حق منبئ عن أمر الله. وجملة {رحمت الله وبركاته عليكم} تعليل لإنكار تعجبها، لأن الإنكار في قوة النفي، فصار المعنى: لا عجب من أمر الله لأنّ إعطاءك الولد رحمة من الله وبركة، فلا عجب في تعلّق قدرة الله بها وأنتم أهل لتلك الرحمة والبركة فلا عجب في وقوعها عندكم. ووجه تعليل نفي العجب بهذا أن التعجب إمّا أن يكون من صدور هذا من عند الله وإما أن يكون في تخصيص الله به إبراهيم عليه السّلام وامرأته فكان قولهم {رحمت الله وبركاته عليكم} مفيداً تعليل انتفاء العجبين. وتعريف {البيت} تعريف جضور، وهو البيت الحاضر بينهم الذي جرى فيه هذا التحاور، أي بيت إبراهيم عليه السّلام. والمعنى أهل هذا البيت. والمقصود من النداء التنويه بهم ويجوز كونه اختصاصاً لزيادة بيان المرَاد من ضمير الخطاب. وجملة {إنّه حميد مجيد} تعليل لتوجه رحمته وبركاته إليهم بأنّ الله يحمد من يطيعه، وبأنّه مَجِيدٌ، أي عظيم الشأن لاَ حَدّ لِنِعَمِه فلا يعظم عليه أن يعطيها ولداً، وفي اختيار وصف الحميد من بين الأسماء الحسنى كناية عن رضى الله تعالى على إبراهيم عليه السّلام وأهله.
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)} التعريف في {الرّوع} وفي {البشرى} تعريف العهد الذكري، وهما المذكوران آنفاً، فالرّوع: مرادف الخيفة. وقوله: {يجادلنا} هو جواب {لمّا} صيغ بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة كقوله: {ويَصنع الفلك} [هود: 38]. والمجادلة: المحاورة. وقد تقدّمت في قوله: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} في سورة [النساء: 107]. وقوله: في قوم لوط} على تقدير مضاف، أي في عقاب قوم لوط. وهذا من تعليق الحكم باسم الذّات، والمراد حال من أحوالها يعيّنه المقام، كقوله: {حرمْت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي أكلها. والمجادلة هنا: دعاء ومناجاة سأل بها إبراهيم عليه السّلام ربّه العفو عن قوم لوط خشية إهلاك المؤمنين منهم. وقد تكون المجادلة مع الملائكة. وعدّيت إلى ضمير الجلالة لأنّ المقصود من جدال الملائكة التعرّض إلى أمر الله بصرف العذاب عن قوم لوط. وال {حليم} الموصوف بالحلم وهو صفة تقتضي الصفح واحتمال الأذى. وال {أوّاه} أصله الذي يكثر التأوُّه، وهو قول: أوّه. وأوّه: اسم فعل نائب مناب أتوجع، وهو هنا كناية عن شدة اهتمامه بهموم الناس. وال {منيب} من أناب إذا رجع، وهو مشتق من النوب وهو النزول. والمراد التّوبة من التقصير، أي محاسب نفسه على ما يَحذر منه. وحقيقة الإنابة: الرجوع إلى الشيء بعد مفارقته وتركه. وجملة {يا إبراهيم أعرض عن هذا} مقول محذوف دل عليه المقام وهو من بديع الإيجاز، وهو وحي من الله إلى إبراهيم عليه السّلام، أو جواب الملائكة إبراهيم عليه السّلام. فإذا كان من كلام الله فقوله: {أمر ربك} إظهار في مقام الإضمار لإدخال الرّوع في ضمير السامع. و {أمر الله} قضاؤه، أي أمر تكوينه.
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)} قد علم أن الملائكة ذاهبون إلى قوم لوط من قوله: {إنّا أُرسلنا إلى قوم لوط} [هود: 70]. فالتقدير: ففارقوا إبراهيم وذهبوا إلى لوط عليهما السّلام فلما جاءوا لوطاً، فحذف ما دل عليه المقام إيجازاً قرآنياً بديعاً. وقد جاءوا لوطاً كما جاءوا إبراهيم عليهما السّلام في صورة البشر، فظنهم ناساً وخشي أن يعتدي عليهم قومه بعادتهم الشنيعة، فلذلك سيء بهم. ومعنى {ضاق بهم ذرعاً} ضاق ذرعه بسببهم، أي بسبب مجيئهم فحوّل الإسناد إلى المضاف إليه وجعل المسند إليه تمييزاً لأن إسناد الضيق إلى صاحب الذرع أنسب بالمعنى المجازي، وهو أشبه بتجريد الاستعارة التمثيلية. والذرع: مدُّ الذراع فإذا أسند إلى الآدمِيّ فهو تقدير المسافة. وإذا أسند إلى البعير فهو مَدّ ذراعيه في السير على قدر سعة خطوتِه، فيجوز أن يكون: ضاق ذرعاً تمثيلاً بحال الإنسان الذي يريد مَدّ ذراعه فلا يستطيع مَدّهَا كما يريد فيكون ذَرعه أضيق من معتاده. ويجوز أن يكون تمثيلاً بحال البعير المثقل بالحمل أكثر من طاقته فلا يستطيع مَدّ ذراعيه كما اعتاده. وأيّاً ما كان فهو استعارة تمثيلية لحال مَنْ لم يجد حيلة في أمر يريدُ علمه؟ بحال الذي لم يستطع مدّ ذراعه كما يشاء. وقوله: {هذا يوم عصيب} قاله في نفسه كما يناجي المرء نفسه إذا اشتد عليه أمر. والعصيب: الشديد فيما لا يرضي. يقال: يوم عصيب إذا حدث فيه أمر عظيم من أحوال الناس أو أحوال الجوّ كشدة البرد وشدة الحرّ. وهو بزنة فعيل بمعنى فاعل ولا يُعرف له فعل مجرد وإنما يقال: اعْصوصب الشرُّ؛ اشتدّ. قالوا: هو مشتق من قولك: عصبتُ الشيء إذا شددته. وأصل هذه المادة يفيد الشدّ والضغط، يقال: عصب الشيء إذا لَواه، ومنه العِصابة. ويقال: عصبتْهم السنون إذا أجَاعتهم. ولم أقف على فعل مجرّد لوصف اليوم بعصيب. وأراد: أنه سيكون عصيباً لِمَا يَعلم من عادة قومه السيئة وهو مقتض أنهم جاءوه نهاراً. ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها في الوجود، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يُساء به ويتطلب المخلص منه، فإذا عَلم أنه لا مخلص منه ضاق به ذرعاً، ثم يصدر تعبيراً عن المعاني وترتيباً عنه كلاماً يُريح به نفسه. وتصلح هذه الآية لأن تكون مثالاً لإنشاء المنشئ إنشاءه على حسب ترتيب الحصول في نفس الأمر، هذا أصل الإنشاء ما لم تكن في الكلام دواعي التقديم والتأخير ودواعي الحذف والزيادة.
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} أي جاءه بعضُ قومه. وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالؤوا على مثله، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء بعض آخر في وقت آخر. وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها، كقول الحارث بن وعلة الجرمي: قومي همُ قتلوا أمَيْمة أخي *** فإذا رميتُ يصيبني سهمي و{يُهرعون} بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول فسّروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع، وهو بين الخبب والجَمْز، فهو لا يكون إلا مبنيّاً للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يُسرَع به. وهذا البناء يقتضي أن الهَرْع هو دفع الماشي حين مشيه؛ إلاّ أن ذلك تنوسِيَ، وبقي أهرع بمعنى سار سيراً كسير المدفوع، ولذلك قال جمع من أهل اللغة: إنّه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعللٍ غير معلوم. وفسّره في «الصحاح» و«القاموس» بأنه الارتعاد من غضب أو خوف، وعلى الوجهين فجملة {يهرعون} حال. وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاؤوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله: {ومن قبل كانوا يعملون السيّئات} فقد صارت لهم دأباً لا يسعون إلاّ لأجله. وجملة {قال يا قوم} إلخ مستأنفة بيانياً ناشئاً عن جملة {وجاءه قومه}، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم، فهو بحيث يسأل عمّا تلقّاهم به. وبادرهم لوط عليه السّلام بقوله: {يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم}. وافتتاح الكلام بالنّداء وبأنّهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه، لأنّه يعلم تصلبهم في عادتهم الفظيعة كما دلّ عليه قولهم: {لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق} [هود: 79]، كما سيأتي. والإشارة ب {هؤلاء} إلى {بناتي}. و{بناتي} بدل من اسم الإشارة، والإشارة مستعملة في العَرض، والتقديرُ: فخذوهن. وجملة {هنّ أطهر لكم} تعليل للعرض. ومعنى {هنّ أطهر} أنهنّ حلال لكم يَحُلْنَ بينكم وبين الفاحشة، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوّة الطهارة. و {هؤلاء} إشارة إلى جمع، إذ بُيّنَ بقوله: {بناتي}. وقد رُويَ أنه لم يكن له إلاّ ابنتان، فالظّاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي. وأراد نساءً من قومه بعدد القوم الذين جاءوا يُهرعون إليه. وهذا معنى ما فسر به مجاهد، وابن جبير، وقتادة، وهو المناسب لجعلهنّ لقومه إذ قال: {هنّ أطهر لكم}، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون، فيكون المعنى: هؤلاء النساء فتَزَوّجوهنّ. وهذا أحسن المحامل. وقيل: أراد بنات صلبه، وهو رواية عن قتادة. وإذ كان المشهور أنّ لوطاً عليه السّلام له ابنتان صار الجمع مستعملاً في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالى: {فقد صَغَت قلوبكما} [التحريم: 4]. وقيل: كان له ثلاث بنات. وتعترض هذا المَحمل عقبتان: الأولى: أنّ القوم كانوا عدداً كثيراً فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاث؟. الثانية: أن قوله: {هؤلاء بناتي} عرض عليهم كما علمت آنفاً، فكيف كانت صفة هذه التخلية بين القوم وبين البنات وهم عدد كثير، فإن كان تزويجاً لم يكفين القوم وإن كان غير تزويج فما هو؟. والجواب عن الأول: أنه يجوز أن يكون عدد القوم الذين جاؤوه بقدر عدد بناته أو أن يكون مع بناته حتى من قومه. وعن الثاني: أنه يجوز أن يكون تصرف لوط عليه السّلام في بناته بوصف الأبوة، ويجوز أن يكون تصرفاً بوصف النبوءة بالوحي للمصلحة أن يكون من شرع لوط عليه السّلام إباحة تمليك الأب بناته إذا شاء، فإن كان أولئك الرهط شركاء في ملك بناته كان استمتاع كل واحد بكل واحدة منهنّ حلالاً في شريعته على نحو ما كان البغاء من بقايا الجاهلية في صدر الإسلام قبل أن ينسخ. وأما لحاق النسب في أولاد من تحمل منهنّ فيجوز أن يكون الولد لاحقاً بالذي تُليطه أمه به من الرجال الذين دخلوا عليها، كما كان الأمر في البغايا في صدر الإسلام، ويجوز أن لا يلحق الأولاد بآباء فيكونوا لاحقين بأمّهاتهم مثل ابن الزنى وولد اللّعان، ويكون هذا التحليل مباحاً ارتكاباً لأخف الضررين، وهو ممّا يشرع شرعاً مؤقتاً مثل ما شرع نكاح المتعة في أوّل الإسلام على القول بأنه محرّماً وهو قول الجمهور. وقد اشتغل المفسرون عن تحرير هذا بمسألة تزويج المؤمنات بالكفّار وهو فضول. وفرع على قوله: {هنّ أطهر لكم} أن أمرهم بتقوى الله لأنّهم إذا امتثلوا ما عرض لهم من النساء فاتّقوا الله. وقرأ الجمهور {ولا تخزون} بحذف ياء المتكلم تخفيفاً. وأثبتها أبو عمرو. والخزي: الإهانة والمذلة. وتقدم آنفاً. وأراد مذلته. و {في} للظرفية المجازيّة. جعل الضيف كالظرف، أي لا تجعلوني مخزياً عند ضيفي إذ يلحقهم أذى في ضيافتي، لأنّ الضيافة جوار عند ربّ المنزل، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عاراً على ربّ المنزل. والضيف: الضائف، أي النازل في منزل أحد نزولاً غير دائم، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة. وأصل ضيف مصدر فعل ضاف يضيف، ولذلك يطلق على الواحد وأكثر، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقد يعامل معاملة غير المصدر فيجمع كما قال عمرو بن كلثوم: نزلتم منزل الأضياف منّا وقد ظن لوط عليه السّلام الملائكة رجالاً مارّين ببيته فنزلوا عنده للاستراحة والطعام والمبيت. والاستفهام في {أليس منكم رجل رشيد} إنكار وتوبيخ لأنّ إهانة الضيف مسبّة لا يفعلها إلاّ أهل السفاهة. وقوله: {منكم} بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل وانعدام رجل رشيد من بينهم، وهذا إغراء لهم على التعقل ليظهر فيهم من يتفطّن إلى فساد ما هم فيه فينهاهم، فإنّ ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم. وبالعكس تمالؤُهم على الباطل يزيدهم ضراوة به.
|